متأهبٌ جدا، وكأني بي أحد أولئك الذين يمسكون الألعاب النارية وينتظرون أول ثانية من رأس السنة ليطلقونها في السماء ويصرخون بهجةً، ويقرعون الكؤوس. لكنه الآن صباح، وصباحٌ باردٌ جداً، وأنا ممسك يدي على لوحة مفاتيح الحاسوب لأحتفل على طريقتي، وآمالي كلها معلقة على أول ثانية من منتصف التاسعة صباح هذا اليوم الكبير، يوم الأحد، يوم الوعد بالسلم في غزة، ويوم سكوت هدير آلة الحرب، ويوم توقف نزيف دم أطفال ونساء أشقائنا، والأهم أنه يوم يجف نزيف الحزن والأسي من مآقينا وفي ذواتنا وداخل ضمير العالم الحي.
لا يمكن لأي عاقل في هذه المعمورة، إلا أن يفرح بهذا المنجز. ولا يتساءل حتى كيف ومن وإلى متى؟ حين طلّ رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية محمد بن عبد الرحمن آل ثاني ليزف للعالم بشرى السلام، بدوت وكأنني أغبطه. لحظتها، كل العاديين مثلي، وكل دبلوماسيي وسياسيي الأرض أظنهم تمنّوا أن يكونونه. يا له من حضور ذلك الذي يقترن بشيء تفاؤلي ينتظره الكون كله، ويترقبه الأعداء قبل الأصدقاء، إنه السلم الذي جاء ليوقف أكثر الحروب كارثية في العقود الأخيرة، حرب هزت العالم وفضحت سياسات وأحييت ضمائر. حرب خلفت إحدى أكبر المآسي الإنسانية في التأريخ الحديث، وكشفت زيف الديمقراطيات الحديثة، وأبرزت قوة أصحاب الحق الضعفاء في مواجهة الجبروت الزائل.
لست مع أي حديث عمن المنتصر ومن المهزوم في هذه الحرب؟ فجميعهم حقاً خسروا وإن بمستويات، ولكن جميعهم ونحن أيضاً، منتصرون أيضاً بهذا الاتفاق الذي جاء كنتيجة واضحة لنهج الدبلوماسية بدلاً عن الحرب. كنت متابع لجهود قطر ومعها مصر والولايات المتحدة في هذا الشأن، منذ البداية، وحين أعلن مسؤول في الخارجية القطرية قبل أسابيع بان قطر قررت تنسحب من مهمة الوساطة، شعرت بالأسى وقلت في نفسي، من للمساكين من أشقائنا في غزة، إذا ما تعقّدت كل مقترحات وحلول السلام. وفي نفس الوقت، ظننت أنها خطوة مدروسة من الدوحة للضغط على الأطراف المتفاوضة للتعامل بجدية في المشاورات والقبول بمقترحات الوسطاء، وهذا ما حدث على الأرجح.
شخصياً، كنت أظن أنني قوي ولا أبكي ببساطة، لكن مآسي غزة على مدار 15 شهراً، كانت تبكيني تقريباً كل ليلة. فكأي انسان سوي، كنت أدمع تارة من مشاهد المأساة، بينما في تارة أخرى وكأي عربي، كنت أنزف داخلياً من شعور العجز والهوان. لهذا السبب، أنا أيضاً منتصر في هذا الاتفاق. ثم إنني حاولت إقناع نفسي منذ فترة، أنه وإن لم ينجح الساسة العرب في الانتصار لمظلومية أشقائنا في غزة عسكرياً، بسبب تعقيدات الأزمة واختلاف موازين القوى، عليهم أن ينتصروا لهم سياسياً وإنسانياً وهذا أقل واجب ديني وإنساني.
سيقول قائل أي انتصار لأهل غزة، وقد سويت المدينة بالأرض، وفقدت من أبنائها 45 ألف شهيد ومئات الآلاف من الجرحى والمخفيين والمعتقلين والمدفونين تحت الأنقاض. بالطبع، لا ينكر هذا إلا مختل. وأنا أعد نفسي شاهد حي على المأساة. إذ لم تكن قناة "الجزيرة" ووسائل التواصل هي بوابتي للوضع الميداني هناك وحسب، ولكن صديقي الروائي الغزاوي همّام الخالدي كان يضعني من غير شعور أمام المستجدات يومياً، كنت على تواصل دائم معه لأسمع منه أخبار عائلته التي ذاقت ويلات الحرب. لقد دمرت كل بيوت عائلته من الدرجة الأولى. وظلت أمه وخواته وأخوته واطفالهم طوال فترات الحرب يتنقلون في المخيمات.
حدثني عن أٌقربائه الذين استشهدوا واحداً تلو آخر، وكيف يعيش هو يومياته ولياليه في سويسرا وهو ينتظر فقط، ليسمع خبراً حزيناً قادماً من مسقط رأسه. قال لي إن أسوأ شيء بات يسمعه الآن هو رنة الرسائل الصوتية على الهاتف الجوال. أصبح لا يطيق سماعها لأنها تفزعه. وذات مرة وصلته رسالة في الليل وظل لحوالي ساعة وهو متردد هل يفتحها أم لا، وحين فتحها وجدها رسالة عادية من شقيقته أرسلتها له في النهار، ولكن بسبب ضعف شبكة الأنترنت هناك لم تصل له إلا في الليل. كنت محظوظاً انني صادفته مرتين أو ثلاث وهو يهاتف أمه السبعينية فسمعت صوتها. يا له من صوت دافئ حنون كأنه عصارة لأصوات كل أمهات الأرض. بل كأنه الأرض كلها وكأنه الزيتون والنخيل. كانت تدعي لي وتقول ان شاء الله تجي على غزة وأطعمك أكل بلدي من يدي. هذا التفاؤل وهذا الصمود هو الذي جعل غزة تنتصر اليوم وتدفع عنها شر الأقدار. الأرض ستبنى وتٌعمّر، والجرحى سيتعافون، والشهداء ستخلف أرواحهم أجيالاً تحمل ذات الراية، وستنبت قبورهم سنابل وحياة.
اسم غزة على كل الشفاه، الكوفية تجوب شوارع مدن العالم، وأطفال الأوروبيين يتغنون "أنا دمي فلسطيني" بعدما كان قد نسى اسم فلسطين حتى أبناؤنا العرب. باختصار، القضية الفلسطينية عادت لتكون في الواجهة، وحل الدولتين هو الحل الممكن والمتاح في ظل تزايد أعداد الدول التي اعترفت بدولة فلسطين، وهذا كله بالطبع، بفضل غزة وأبنائها. أما تلك الدولة التي لا تسمى، فقد خسرت هي الأخرى الكثير. خسائر بشرية كبيرة لكن لم يعلن عنها، وخسرت مادياً واقتصادياً وخسرت سياسياً ودبلوماسياً، وبات يشار لها ولعلمها وكل من يدافع عنها بالمجرم. هذا كله فضلاً عن الانقسامات الداخلية وعن الشعور بالهزيمة النفسية الذي يسيطر على الكثيرين هناك، وما الفيديو الذي صادفته لوزراء ومسؤولين إسرائيليين وهم يبكون أثناء التصديق على اتفاقية وقف الحرب، إلا جزء يسير من الشعور بالخيبة. لكنه في المقابل، يوضح أنه ورغم التفوق العسكري ورغم الدعم الغربي غير المحدود، إلا أن هناك شعور داخل دولة الاحتلال بأنهم بحاجة ماسة للسلم وبأي ثمن. ربما أنهم بحاجة له مثل حاجة اهل غزة، وهل ما يجعلنا نتفاءل ونأمل أيضاً بأن الاتفاق الذي أحتفي به بطريقتي وأكتب عنه، سينجح لا محالة، وأن أيام السلم حتماً، ستطول.
نقلا عن المصدر أونلاين