تآزرَت في السنوات الأخيرة عوامل عدة دفعت لنشوب الحرب التي تعيشها اليمن منذ قرابة سنتين، وكانت سيطرة الحوثيين على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات أبرز تلك العوامل، خاصة مع انطلاق الحوثيين صوب محافظات الوسط والجنوب، وفيما يُصنّف الحوثيون باعتبارهم جماعة مسلحة تتبع المذهب الزيدي (الشيعي)، وتنتشر في المناطق الشمالية، فإن غالبية اليمنيين تعرف بارتباطها بالمذهب الشافعي، أحد مذاهب السُّنة الأربعة المعروفة، وتتركز وسط البلاد وجنوبها، الأمر الذي جعل محاولة الحوثيين للسيطرة على هذه المحافظات تبدو كما لو كانت حرباً مذهبية تهدف لتوسيع رقعة الزيدية، حتى وإن كانت صبغتها سياسية بدرجة رئيسية.
كانت تتحرك قوات الحوثيين وحليفهم صالح باتجاه مناطق الوسط والجنوب مطلع عام 2015، دون أن تكترث بالاتفاقيات السياسية التي وقَّعها ممثلو الجماعة مع بقية الأطراف والمكونات اليمنية، لاعتقادها أن الفرصة مواتية لإحكام السيطرة على البلد بأكمله، ولم يعد لدى خصومهم أي قوة يمكن المراهنة عليها، وعلى غرار أسطورة "الجيش الذي لا يقهر" اختطت آلة الدعاية الحوثية عبارة مماثلة مفادها "مسيرتنا لا تعرف الرجوع إلى الوراء"، وكثيراً ما قالها بعضهم تلميحاً وتصريحاً، حتى وإن توجهت صوب المملكة العربية السعودية فلن تتوقف، وكان يطلق على زحفهم لاجتياح المحافظات "المسيرة القرآنية"، مع العلم أن الزحف الحوثي استقطب إلى صفوفه شخصيات معروفة بمناهضتها للتيارات الدينية واعتناقها أفكاراً هي أقرب للعلمانية منها إلى جماعة دينية الشعار والمظهر والمشروع، وإن كانت تحتكر الدين في سلالة أسرة ترى في "محمد" كبير العائلة لا رسول الإسلام، كما هو في نظر غالبية المسلمين.
بيد أن ثمة عوامل أخرى كانت حاضرة في المشهد قبيل اندلاع الحرب، منها ضعف الأداء الحكومي في سنوات ما بعد الثورة، الضعف الذي تقاسمه شركاء عديدون ليس من بينهم جماعة الحوثي التي اتخذت موقفاً مناهضاً للحكومة منذ تشكيلها عقب مغادرة صالح كرسي الرئاسة أواخر عام 2011.
واكتفى الحوثيون وأنصارهم بحشد رأي عام معارض للحكومة والمبادرة الخليجية، ساعدها في ذلك ظروف البلد الذي ما كان يخرج من أزمة إلا ليدخل في أخرى، وظل إخفاق الحكومة في تنفيذ كثير من وعودها ورقة الحوثيين الرابحة في كسب الأنصار، مضافاً إلى ذلك تحسن ظروف الجماعة وتوسع علاقاتها داخلياً وخارجياً؛ ليساعدها ذلك في استقطاب مجاميع كبيرة من مختلف التيارات السياسية والمكونات المشاركة في الثورة، وسعت جاهدة لتعزيز وجودها في المنظمات المدنية والفعاليات الشبابية ومنتديات الثقافة ووسائل الإعلام المختلفة، وبذلك قدمت نفسها للرأي العام باعتبارها حركة وطنية تؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان وتقبل بالرأي الآخر، بالإضافة إلى أن تحالف الحوثيين مع الرئيس السابق أكسبهم كثيراً من الأوراق بحكم امتلاكه قوة ونفوذاً داخل السلطة وخارجها، وفي الجيش والأمن وشبكة حلفاء وأتباع ومناصرين بفضلهم غدت جماعة الحوثي قوة سياسية وعسكرية لا يستهان بها.
يمكن القول إن تدخل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية أواخر مارس/آذار من العام الماضي أعاد المعركة للسياق الطبيعي كحرب بين طرفين، يمتلك كل منهما من القوة ما يكفي لتحقيق بعض الأهداف في مرمى الطرف الآخر، وبدونه كانت ستبدو عملية اجتياح عسكري (لصالح الحوثيين وحلفائهم) مسنودة بعوامل شحن مذهبي وطائفي، الأمر الذي يعني في المقابل إمكانية تشكل جبهة رفض ومقاومة تستخدم أدوات شحن مضاد تستدعي الورقة المذهبية والطائفية في حرب الدفاع عن النفس، وهو ما ظهر في بعض ملامح المعركة، لكن الخطاب الذي يجمع القوى المنخرطة في مواجهة الحوثيين -على اختلاف مكوناتها ورؤاها الفكرية والسياسية- يتمثل في العمل على "استعادة الدولة وإنهاء الانقلاب الحوثي ودعم الشرعية التي يمثلها الرئيس هادي وحكومته"، وهو ما أعلنه التحالف العربي منذ انطلاق عملياته في اليمن باسم "عاصفة الحزم"، وكان لهذا أثره الملحوظ ودوره الحاسم في بلورة خطاب مناهض يستند على القضية الوطنية من زاوية رفض الانقلاب على المؤسسات الرسمية والسلطات الشرعية، وهو ما أدى ولو بشكل تدريجي إلى ضمور الأصوات التي تستحضر مفردات الحرب الطائفية وتستمد المشروعية من مضامين ومتون لا ترى في الحوثيين (الشيعة) سوى خصم ديني ومذهبي وعدو تاريخي، بغض النظر عن أي تقييم أو توصيف آخر لهم، كما أن الهدف الرئيسي في معارك اللحظة الراهنة يتمثل في السعي لتحرير كل اليمن من سيطرة الحوثيين الانقلابيين، وتمكين السلطة الشرعية من ممارسة أعمالها وفق الدستور والقانون، بمعنى أن البعد الوطني هو الملمح الأكثر حضوراً في معسكر الشرعية.
وفي المقابل رغم احتشاد عوامل ومؤثرات ذات صيغة مذهبية وطائفية في معسكر الحوثيين وصالح غير أن الخطاب العام والمعلن يسوق هو الآخر مفردات حرب ومضامين خطاب هي أقرب للسياسة منها إلى المذهبية؛ إذ تصف الآلة الإعلامية للحوثيين قواتها بـ"الجيش واللجان الشعبية"، فيما يبدو أنه استجداء مشروعية من الدولة والمجتمع، مع أن مضامين خطابات زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي وكبار مساعديه لا تبتعد كثيراً عن أجواء معركة صفين وموقعة الجمل، ولا تزال احتفالات الجماعة المستمرة بكل المناسبات والأعياد الدينية (الشيعية) حاضرة بقوة في ثنايا الجسد الحوثي شعاراً وممارسةً، مع سطوة الرموز والأعلام والشعارات الشيعية واستعداء الرموز الوطنية اليمنية والمظاهر الرسمية التي يفترض أنها جامعة لكل اليمنيين.
مما سبق يمكن استنتاج أن الحوثيين سياسياً وعسكرياً فقدوا كثيراً من العوامل والأوراق التي قادتهم إلى الحرب، واثقين أن النتيجة ستكون في صالحهم، لكنهم لا يزالون يمتلكون أملاً بالخروج من الحرب بانتصار، ولو كان انتصاراً رمزياً يمنحهم على الأقل المشاركة السياسية في مرحلة ما بعد الحرب، بينما تضاعفت أوراق ومكتسبات الطرف الآخر المنضوي تحت راية الشرعية، وبات في الوقت الراهن يتحدث عن خيار ضروري وحيد عنوانه تحرير الدولة من قبضة الانقلاب، إما بالحسم العسكري أو التسوية السياسية، تسنده قرارات أممية أبرزها القرار 2216 ومرجعيات وطنية وإقليمية تتمثل في نتائج وتوصيات مؤتمر الحوار الوطني، وبنود المبادرة الخليجية، بالإضافة إلى اعتراف المجتمع الدولي بهذه الشرعية، فضلاً عن إسناد ودعم أبرز الدول العربية من خلال التحالف العسكري العربي الذي يعد الداعم الأقوى للشرعية اليمنية في مختلف مجالات الدعم والإسناد.
- الرجاء عدم إرسال التعليق أكثر من مرة كي لا يعتبر سبام
- الرجاء معاملة الآخرين باحترام.
- التعليقات التي تحوي تحريضاً على الطوائف ، الاديان أو هجوم شخصي لن يتم نشرها